ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ
ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

حالُنا

يداهما متشابكتان،
وطريقهما واحدٌ و طويل،
لا ينظران إلا إلى الأفق البعيد،
ويعدان بعضهما بصمت أن يتجاوزاه معا،
كانا أخوين،
لكنّ الدم وحده لا يكفي في بعض الأحيان،
في بعض الأحيان .. لا نعود نعلم ما يكفي،
أو إن كان هناك شيءٌ يَكفي أصلا ..

ولأن الغدر لا يعترف بمكان أو زمان خرج لهما من تحت قدميهما على شكل يدين زرقاوين انقضتا سريعا لتُمسكا الأخ الأصغر، حاول الصغيرُ التملص باستماته لكن تلك الزرقة الخبيثة ازدادت قوة وتشبثا به حتى أسقطته أرضاً وفكّت العقدة المحكمة بين الكفين المشققتين واللتين تلاحمتا بالجرح نفسه. هرع الكبير لنجدة أخيه لكن أربع أيادٍ زرق أخرى أمسكته، وصراخ أخيه لا يزال يدوي بأذنيه : ساعدني .. سيقتلونني ويشربون دمي .. ساعدني .. ساعدني .. ليس لي غيرك ! ، ويستحيل الصوت نارا تغلي في شرايينه وقوةً لا تعترف بالمستحيل .. فيحرر نفسه وينطلق كالسهم يلبّي النداء، فتتلقفه هذه المرة خمسين يد. وكلما حاول الهروب من يد و عضّ أخرى كانت الأخريات ينهلن عليه بالضرب واللكم والتنكيل.

علم فيما بعد أنهم لا يريدون منه شيئاً، كان الصغير هو هدفهم الأوحد.

رفسوه مرارا ..
قالوا :
” احني رأسك ”
قال :
” لن أعيش لأفعل ”
قالوا :
” أخوك أحنى رأسه فكن عاقلا مثله ! ”
قال :
” سأرفع رأسي من أجل أخي الذي لم يُحني يوما قلبه ”

قرروا أنّه تكلّم أكثر مما ينبغي فقطعوا له لسانه .. وما لبث أن نما له لسانٌ جديد وكان أول ما قاله :” أظننتم أن سكاكينكم قادرةٌ على إسكاتي أيّها الحثالة !؟ ” .. فقطعوه له مرة ثانية وثالثة ورابعة وفي كل مرّة كان يصرخُ ألما وحين ينتهون يبتسم ويعاود تهزيأهم بلسان جديد أشد من ذي قبل.

أرادوه ضعيفاً فقطّعوه، لكنّ أجزاءه ظلّت تزحف تجاه بعضها بعضا وكأنّ قلبا خفيّا يمدّها بالحياة .. أتعبوه .. عذّبوه .. آلموه .. أرادوه مستسلماً فاستسلموا .. أرادوه مهزوماً فهُزموا .. ولم يحصلوا قط على ما أرادوا. أدركوا أخيرا أن عليهم أن يقضوا على الذي صنع منه رجلا .. وهو ماضيه، والوقت حان لينسوه من يكون .. فهُويته وماضيه كانا وقوده السريّ الذي يدفع جسده الهش ليكون قويا، وقلبه الصغير ليتحلّى بالشجاعة ويراقص الموت بمرح. لعلّهم سئموا من فشلهم في إيجاد المخزن الذي يخبّئ فيه وقودَه هذا .. فهم لم يعلموا أن القوة قد تُفرّق بين يدين التقتا لكنها لم تستطع يوما أن تفرّق بين قلبين تحابّا .. فهناك في هذا العالم كنوزٌ لا يستطيع أحدٌ سلبها منا، ومنها الذكريات.

أعطوه ثيابا غير ثيابه، علّموه لغةً غير لغته ، أطعموه من طعامهم، داووه من أدويتهم، غيّروا اسمه في بطاقته الشخصية، عرضوه على أشخاص لا يعرفهم وقالوا : هؤلاء هم عائلتك .. علّموه كيف يُغني مثلهم ويشارك باحتفالاتهم ويلعب مع أطفالهم .. قالو أنهم يحبونه وأنّهم يريدونه سعيدا وكانَ يكتفي بالصمت .. لكن حين تجرّؤوا وقالوا : أنت واحد منّا ! انفجر الغضب في عينيه وبصق في وجوههم وقال : ” فشر !! ” .. وركض هاربا يتدبر جراحه ويبحث عن عائلته الحقيقية وهي أخوه الأسير. وجدَهُ مغمِضَ العينين ويسد أذنيه بأصابعه .. فصرخ فيه : أين كنتَ طوال هذا الوقت .. أعلم أنّهم لم يتركوك بحال سبيلك وأعلم أنك لا تملك إلا يدك اليسرى محررة بينما اليد الأخرى التي تحمل البندقية مكبّلة بالحديد .. لكن كيف أغفر لك أنّك أغلقت عينيك كي لا ترى ما يفعلونه بي ! كيف أغفر لك أنّك صممتَ أذنيك كي لا يتردد صوت صراخي فيهما .. كيف أغفر لك صمتك على ما آلت إليه أحوالي .. صرخ بغضب والدموع تملأ وجهه: قل لي كيف .. كيف !؟ . ولم يُكمل الصغير كلامه لأن يد أخيه الأكبر ضغطت على زناد البندقية لتستقر رصاصتها في كتفه، بينما تحاملت عليه الأيادي لتأسره من جديد.

****

أفاق الكبير على صوت يصرخ فيه: ” كيف أغفر لك ! ” وشاهدَ إصبعه يضغط على الزناد ليطلق الرصاص على أخيه الأصغر وأنّ بصوت مخنوق من الألم : كيف سأغفر أنا لنفسي .. وبدأ يبكي كطفل صغير وهو يردد مرارا .. كيف سأغفر لنفسي .. وتمنّى مئات المرات لو أخذوه هو وأبقوا أخاه سالما .. تذكّر نفسه وهو يَعده بأن لا يخذله أبدا .. تذكّر أمّه التي كان اسمها الحرية ووالده الذي كانوا ينادونه بالعزّة .. سئم من بكاءه، ملّ من ضعفه، واشتعل في صدره ما يكفي من الغضب .. نظر إلى اصبع يده الذي أطلق النار على أخيه وهمس بسرّه : ” أنت لستَ منّي بعد الآن يا من آذيت أخي ” ، ولأنه لم يكن يملك إلا نفسه هجم على إصبعه بأسنانه وبدأ يعضّه وينزف الدماء، لم يحاول أحدٌ منعه .. وتمنّوا أن ينزف حتى الموت بينما كان إصبعه يقاوم ويتشبث بجسده وهو يشدّ عليه بأسنانه ويقول : سأخلعك إن آجلا أو عاجلا، بينما يُهيّئ له أن إصبعه يقول له باستهزاء مرير : ستنزف حتى الموت ولن تقتل أحداً غير نفسك !.

أيامٌ من الألم مرّت .. سادت فيها رائحة الموت ولون الدم وصوت الأنين ، كُلّ حظي بحصّته من الخسائر ولم ينجُ أحدٌ من الألم، ولكن مهما يكن ظلام الليل حالكا تظل النجوم تُرسل أشعة من الأمل بفجر جديد وغدٍ أفضل.

ما حدثَ بعد ذلك أن يد الأخ الأكبر استطاعت أخيرا الوصول لسكين غفل الجميع عنها بعد مخططات طويلة نجحت أخيرا في إيصاله لها، وبيدٍ واثقة لا تهتز قطع إصبعهُ الخائن وحرر نفسه، وذهب ليبحث عن أخيه الصغير والذي ما عاد بعد اليوم صغيرا، فوجده ويدٌ تهوي لتضربه في عنقه بينما أمسكها الصغير بقوّة والتقط السكين التي رماها لهُ أخوه وطعن بها تلك اليد، فسال منها دمٌ أزرق لا يثير إلا مشاعر الاشمئزاز، ساعده أخوه على الوقوف وحاربا سويا كل تلك الأيادي التي اختفت سريعا بهروب جبان .. وكان النّصرُ لهما من جديد وتهيّء لهما أن صوت والدِيْهما كان يقول : أحسنتم صُنعا يا أبنائي .. كُلّنا فخورون بكم.

قال الصغير: أكان علينا أن نقاسي كل ما قاسيناه .. أكان علينا أن ننزف كل هذا الدم ونكابد كل هذه الخسائر ؟
بغضب قال الأكبر : إياك أن تسمّي تضحياتنا خسائر .. فما التضحية إلا نصر .. والنصر لا يليق بمن لم يقاسي التعب والعزة لا تأتي بالمجان يا أخي ونحن أهلها ونحن من ندفع الثمن.
قال الصغير بنزق : لمَ لمْ يتركونا بحال سبيلنا ؟
رد الأكبر : لأنّهم يخافوننا .. هذه هي الحقيقة.
همس الصغير : أعتذر لأنك خسرت إصبعك ..
نظر إليه الأكبر بود وقال : كان وجوده نقص، وبدونِه أنا أكثر كمالا .. لم أكن يوما أسعد مما أنا عليه الآن يا أخي

وعادا من جديد، يداهما متشابكتان، وطريقهما واحدٌ و طويل، لا ينظران إلا إلى الأفق البعيد، ويعدان بعضهما بصمت أن يتجاوزاه معا.

عن لباب الكايد

شاهد أيضاً

ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

كَبُرَت شَجَرَةُ الزَيتونِ

يَركُضُ بخطواتٍ متعَثّرة .. الكثيرُ من الخوفِ يَعُجّ بدمائهِ ، يَلفّهُ طَيفُ الأيامِ فيزيدُ الظلمةَ …

ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

دقّات ساعة

هُناك وَجدّتُ قطعةً باتت تُوضح معالم الصورة التي أُركّبها مع الزمن.. هدوءٌ ودقّات ساعة! كَليْلةٍ …

شاركنا تعليقك =)

%d مدونون معجبون بهذه: