لم أعد اذكر تاريخ ذلك اليوم بالتحديد ولا اذكر كم كان عمري وقتها ، لكنّ كل ما اذكره انني كنتُ صغيرةً بما يكفي لتكون كلماتُ ما يسمى شعراً خزعبلات كبارٍ تزعجني لانها تتعدى حدود فهمي و ادراكي .
في تلك الليلة كانَ أبي يشرُعُ بالخروج الى أمسيّة شعريّة لذلك الرَجل ذو النظارات الكبيرة الذي دائماً ما كنت ارى صورته على غلاف كتبٍ او في التلفاز ، كانَ شَكله مألوفاً جداً كما هو اسمه “محمود درويش” . ما أثار فضولي في الذَّهاب لتلك الامسيّة أن أرى ذلك الرَجل على ارضِ الواقِع ، الفُرصة التي لا تعوّض هذا ما فهِمته من حماس أبي لخَبرِ الأمسية .
مرّ الوقت ثقيلاً شعرت بالملل ، لم أتوقف عن التذمر للخروج من هذا المكان . لم يكن كلام درويش يعني لي شيئاً سوى انه كلمات ، لا أفهمها
في الحقيقة انني لم اكن استمع لكلامه ، كان شيئا اخر يجذبني أكثر. نظراتهم ! و كأن درويش كانَ ينثُر سحراً مع كلّ كلمة ، كانوا يستمعون بأرواحهم، بكلّ حاسةٍ من حواسهم . و ابي !! الذي لم يكن يعير تذمري أي انتباه ! و كأنه في عالمٍ آخر !. ايقنت أن خوفي من ذلك الرجل ذو النظارات الكبيرة كان مبرراً، لقد كان ساحر !!
كنت طفلةً لا أفهم الشعر لا اذكر الوقت ولا الزمان ولا المكان لكنني اذكر ذاك البريق في عيون أبي ! و الحياة الاخرى التي كان درويش ينسجها من كلماته لأولئك الناس لم يغب عنّي سحرها ، طويتها في مخيلتي ، الى أن أدركتها .
كلمات الشعر ، سحر درويش ،عطش العيون الى وطن ! ادركتها جميعا
و لم أنسى درويش فقد عاشَ في داخلي منذ تلك الليلة ، و ان فارقته الحياة ، فحياةُ كلماته لم تتفارقنا