ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ
ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

عَلَـى رَصـِيفِ القُـدْس ..

لَملمتْ أغرَاضَها المُتَناثِرة عَلى عَجل ٍ ، وسَابَقتْ خُطاهَا عَلى بِساطٍ مِن فَرحْ ، قَبّلتْ جَبينَ والدَتها الوَاقِفة قُربَ الباب تَرقَبُها بعينٍ حَنون ، ومَضتْ وفَيضُ دَعواتٍ يَتبَعُها .
– هُو يَومُكِ الأوّل فِي المَدرسة الجَديدة ، وتأخّرتِ هَكذا ! بأيِّ عُذر ٍ سَتُقابلين المُعلّمة الآن يا سارة !
– يَفصِلُنا سَاعة ٌ عَن المَوعد يَا أبتِي ، سَتكونُ العَقاربُ لِصالِحي ، سِر أنتَ وسَترى .

ارتَسمتْ عَلى شَفتي أبي صَلاحٍ ابتِسامَةٌ مُتمرّدة ، وغَلّفت شِغافَ قَلبهِ هَالةُ حُب ، فروحُ سارةَ المُشبَعة ثِقةً تَجلبُ أطنَاناً مِن التّفاؤل ، مَضى فِي سَيرهِ وقدْ أسَرّ لِنفسِه : ” أتمنّى أنْ لا يَخيبَ ظنُّكِ يا ابنتي ، فَقدْ زَارني مِن الخَيباتِ ما يكفِي لِسدِّ بابي عن استقبال المَزيد ، أتمنّى! ”

فِي أزقّةِ القدس ، وَجدتْ عَينا سارة مآربَها ، فَحلّقتْ وجَالتْ بكُلّ تَفصيل ٍ فيها ؛ تَعرُّجاتُ إسفِلتها ، حِجارَتُها القَديمة ، رَائِحةُ الكَعكِ المَقدسيِّ عَلى عَربةٍ شَهدتْ عُصوراً مِن تَاريخ المدينَة ، أطفالُها المُتراكِضين فِي كلِّ صَوب ٍ نَحو مَدارسِهم ، كُلّ شَيء فِيها يَزيدُها جَمالاً عَلى جَمال ٍ !

كَانت البَهجَةُ تُرخِي أشرِعتَها عَلى قَلبها ، لَولا أنْ مَرّ بَصرُها بكومة ٍ سَوادٍ تَعتَلي رَصيفاً قَافِراً !وجهٌ كِغُرابِ البينِ ، وجَدائِلٌ مُنتِنَةٌ تَتدلّى مِن رأسٍ فارِغ ! صُهيونيٌّ مُحتَلُّ ، قَذفَهُ القَدرُ هُنا عنوةً في الزحام !
ما أجمَل القُدسَ لَو نُزِعوا مِنها ! وكَيفَ الحَياةُ سَتُستحالُ فِيها لَو كَانوا نَسيَاً مَنسيّاً !

أطبَقتْ سارةَ عَلى تفكيرها بغمامِ أمل ٍ ، وتنهدّت تَنهيدَة نَفثتْ فِيها كُلّ الهُمومُ المُتراكَمة عَلى رفوفِ فُؤادِها ، وقالتْ وفي صَوتِها اختِلاجَة :
– أتبقّى الكثيرُ لِنقطَعه يا أبتِي ؟!
– أمللتِ ! لا زِلنا فِي بدايَة المِشوار يَا صَغيرتِي .
مِن بعيد ٍ ، لَمحتْ سارة سُوراً طَويلاً باسِقاً ، كَأفعى تَتلوّى فِي كَبدِ الغابة ، عَرفتْ أنّه ذَاكَ الجدَارُ الذّي حَدّثها عنهُ والِدُها ، هو ذاكَ الجِدارُ المُتجَهِّمُ الَقابـِعُ فِي رَحم المَدينة بلا زوال !
جدارٌ يَفصِلُ أرواحَ المَقدسييّن الطاهِرة عن قَذارةِ التّاريخِ شَرقِيّهُ ، جِدارٌ عَازِلٌ مَبنيٌّ مِن دَقائِق حِقدِ وأطنانِ كُرهٍ مُعلَن !
كَانَ مَنقوشاً بآلافِ العِباراتِ ، ومئاتِ الرّسومات ، ويكأنّه أصبَحَ مَرتَعاً لأنامِل المقدسيين يُجابهون بِذلك قَسوتَه ، ويُجبرونَه أنْ يَركَعَ خَاضِعاً لإرادَتِهم المَجبولة مِن حَديد !

بَقيتْ سارة تُحدّق باهتِمامٍ ، وتَقرأ عَلى مَسامِعِ أبيهَا ما استمالَها مِن عباراتٍ ، تَضحَكُ تَارةً مِن تِلك الرّوح العَنيدة المَملوءة إصراراً في أجسادِ المَقدسيين ، وتَدمعُ عَينُها تَارةً عَلى أطلالِ حُروفٍ تَصِفُ الوطن !
كَانتْ تُشيرُ ببنانها بكلِّ فرح ٍصَوبَ بَعضِ الرّسوماتِ طَوراً ، وتَسكتُ واجمَةً حِين تَرى مَا يُحرّكِ فؤادَها نَحو قُدسِها طَوراً آخر .

تَوقّفتِ السّيارةُ عَن الحِراكِ فَجأة ً ! فالتَفَتَتْ سَارة أمَامَها لِترى ما الخَطب !
كانوا يَتقدّمون وكِلابَهم الشّرسة بكلّ اشمِئزازٍ ، لا يَختلفون عَنها كَثيراً ، فهُم أجسادٌ عَاريَةٌ من أيّ نبضٍ بالإنسانيّة أو عَقلٍ رَشيد ! أكوامٌ تَتعفّنُ فِيها قُلوبٌ أسودٌ دَمُها ، مُشبَعَةٌ بالخَوفِ والإذلال!
تَقدّم وَالدُهُا ، لِيُتمّ إجراءَات العبور ! فأدمعتْ عَينا سارة حُزناً وحُرقَة ، وشَعرتْ بَشرخٍ يُمزّق قَلبَها ، فالوَطنُ الذي احتَوانا وأجَدادنا بَين أحضَانِه مُنذُ الأزلِ ، قَدْ اغتُصِبتْ إرادَتُه بَين لَيلةٍ وضُحاها ، فأمسَى لَنا سِجناً مُقفِراً كَما يَظنّون ! وثراهُ ما عَادَ يَحوي جُذوراً مِن دِمانا تَستَقي ومِن الجُفون ، وأناسُه قَد شاخَ فِيهم الأملُ العتيقُ ، وخَبا بَريقُ النّصرِ ، أخفتْهُ العيون !

هُم هَكذا ظَنّوا ، وما دَروا أنّ العَزيمة فِي النّفوسِ إلى ازدِياد ، وأنّ ذاكَ العِشقَ فِينا يُغرِقُ البَحر مداد ! لا لَن نَحيدَ إذا ما استكانَ الكَهلُ مِنّا ، أو لَفّ مُهجَتهُ السّواد ! لا لَن يَكونَ إلى أرواحِنا الجَذلى بَنصرٍ قادمٍ ، سَبيلُ حِداد!
هَامتْ سارة بَينَ أفكارِها كَقطعةِ خَشبٍ تَتقاذفهُا أمواجٌ عَاتية ، أيَقظَها صَوتُ بابِ السّيارة يُطرقٌ بحَنَقٍ ، فَهرعتْ إلى أبيها تسأله :
– أبخيرٍ أنتَ يا أبتِي ؟
– حَسبنا اللهُ ونِعم الَوكيل ! بخيرٍ بخيرٍ ، وماذا عَساني أقول ! يَتعمّدون إيذَاء الأهالِي وإرهاقَهم بطولِ الانتظارِ ، لِمجرّد الانتظار لا لِشيء آخر ! لا عَليكِ ، لِنكمل مَسيرنا !

وَصلَتْ سَارة مَدرستَها الجَديدَة بَعدَ طولِ عَناء ، حَدَّقتْ فِي تلك العَقارب المُتسارعَةِ فِي سَاعة مِعصمَها ، ابتَسمتْ لَها ، فَما خَابَ بها ظَنُّها .
وَدّعتْ أبَاها بفرح ٍعَلّها تُزيلُ ما اعتَراهُ مِن حَنق زَاره ، ومَضتْ تَمشي إلى بابِ المَدرسةِ وهِي تَلعنُ كُلّ تِلك الحَواجِز الصَّدِئة المُنثورةِ فِي الطَريقِ .

كَانتْ المَدرسَة قَديمةِ البناءِ ، وتَشيعٌ مِن جُدرانِها رائِحةُ الماضِي ، وتَجمَعُ أعداداً جَمّة مِن فَتياتِ القُدسِ وما حَولها ، قُرعَ الجَرسُ فانتَظمَ الجَميعُ باتّساق .

اجتاحَتْ أوصالُ سارة حَالةٌ من فَرح ، فهذا النّظام والتآلُفُ بَشائِرٌ جَيّدة لِمَسيرة مَدرسية سَتدومُ أعواماً . ما لَبثَتْ أنْ رَحبّتْ بالفَرحِ بين ضُلوعِ صَدرها ، حَتى طُردَ المسكينُ عنوة !
ما هذا الذي يَحدث ! لِم يُرفَعُ ذاكَ العَلم الشّنِيع ؟! أينَ عَلمُ بـِلادي ؟!

كَادتْ سَارةُ تُجنّ مِن هَول المَوقف ، فَلم تَكنْ تَتَخيّلُ يَوماً أنْ تَكونَ شَاهِدة لِرفعِ علمٍ تُكنِّ لَهُ أطنَانَ كُرهٍ وامتِعاض ! كَتمتْ ما يَعتَصِرها ، ومَضتْ نَحو الغرفة الصّفية بخطًى مُثـقَلة وراءَ زَميلاتِها .

كَانتْ هِي آخر الوَاصلين ، جَلستْ عَلى كُرسّيّ خَشبيّ بالٍ قُربَ نَافِذةٍ مُتهَالِكةٍ ، اقَتربَتْ مِنها بَعضُ الزّميلاتِ ، سَلّمت وتَعرّفت عَليهن عَلى عُجالةٍ ، ثم رَكنتْ رأسها إلى الطّاولة . لَم تُردْ أن تَتحدّث أو تستمعَ لِأحد ! يَكفيها تِلك العَواصف المُزمجرةُ فِي جَوفها ، هِي أحقُّ أن تَنصَت لَه !

لَم تُرد سَارة أنْ تُكلِّفَ نَفسَها عَناءَ الوقُوفِ للمعلّمةِ عِندَ قُدومِها ، لَيسَ لِسوءِ أدبٍ تُبديه ، وإنّما مِن خُذلانٍ نَشبَ أظفارَهُ فِي رُوحِها !
لَكنّ صَوتَ المعلمّة المرتفع أثنَاهَا عَن تِلكَ النيّة ، فَوقَفتْ عَلى الفَور وردّتْ تَحيّة الصّباح .

مَا لَبثتْ أن جَلسَتْ سَارة عَلى كُرسيِّها حَتى حَملقتْ فِي السّبورة التي كَتبتْ عَليها المُعلّمةُ تَوّاً ، فَركتْ عَينيها عَلّها تَرجِعُ للواقِع إنْ لَم تَكنْ فِيه !
نَظرتْ إلى زَميلاتِها ، لَم تَشعرْ بواحِدةٍ تُعانِي خَطبها ، فالكُلّ مُنتَبهٌ ويَكتُبُ باهتِمامٍ ! تمنّت لَو هَاجتْ إحداهن وسألتْ : لِم لا نَكتبُ بالعربيّة ! لِم تَحكُمنا العِبريّة ! تَمنّت ، وما كُل الأمنياتُ تُحالُ واقِعاً !

أدركَتْ حِينها سارةُ أنّ الوضع اعتِيادي ، هِي وَحدها مَن كانتْ تِشعرُ بحُرقَةٍ تَسكُنها ! وَحدها مَن تَلقّت اليَوم صَدماتٍ كَافِية لِتطرحَ رُوحَها أرضاً !

عَلمُ المُحتَلّ يُرفرفُ مع طُيورِ بلادِي في السّماء ! والعِلْمُ الذي نَطلبُه الآن قد قَذفَ لُغتنا بَعيداً واستبدَلها بحروفٍ مشوّهة ! ما عُدتُ أريدُ أنْ أرتَع بَين جَنبات مَدرسَةٍ لا تَعتَرفُ بوطن لَهُ الأرواحٌ تُهدى ! لا تَعتَرفِ بلغةِ القُرآن حَتّى !

عَلى رَصيفِ القُدسِ يَا صَحب اتبعوني !
سأنسِجُ مِن أحلامِنا مأوى لِشتاتِ أرواحِنا ، سأنظِمُ مِن العَربيّة حِكايَتنا ، سأحيكُ من تِلك القِبابِ الذّهبية بُسطَاً نَنامُ عَليهَا قُرب القدسِ إن لَفنّا يَومٌ حَنين !
عَلى رَصيفِ القدسِ ، سأرفَعُ عَلميَ دُونَما خَوفٍ ، دُونما خُذلان !
عَلى رَصيفِ القدس ، سأفتَرشُ الأرضَ وألتَحِف السّماء ، وأنامُ بكلّ ارتياحٍ !

أخَمدتْ سَارةُ تِلكَ الحُروف المُلتَهِبة دَاخِلَها ، ولَم تَكتَرثْ بما قَد كُتب على السّبورةِ ، كَورّت يَديها عَلى الطّاولة ، ودفنتْ رأسها المُتعبَ ، وغطّتْ فِي نَومٍ عَميق !

[تَمّت]

عن أسماء الخالدي

شاهد أيضاً

ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

كَبُرَت شَجَرَةُ الزَيتونِ

يَركُضُ بخطواتٍ متعَثّرة .. الكثيرُ من الخوفِ يَعُجّ بدمائهِ ، يَلفّهُ طَيفُ الأيامِ فيزيدُ الظلمةَ …

ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

دقّات ساعة

هُناك وَجدّتُ قطعةً باتت تُوضح معالم الصورة التي أُركّبها مع الزمن.. هدوءٌ ودقّات ساعة! كَليْلةٍ …

شاركنا تعليقك =)

%d مدونون معجبون بهذه: