ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ
ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

الدستور المُعتدى عليه

قبل 92 عامًا أصدر الملك فؤاد الأول دستور 1923 في أبريل، بعد خلافات عديدة حدثت بين القصر و الأنجليز و الوفد، فشهد هذا الدستور مماطلة كبيرة من جانب الملك لإصداره، و تدخلات من جانب الإنجليز لتعديل مواده، و مقاطعة الوفد لوضع نصوصه، و كذلك استقالات عديدة للوزارات، فكانت الحالة السياسية مرتبكة لما يقارب العام أو يزيد، منذ إصدار قرار بتشكيل لجنة لوضع الدستور حتى خروج نصوصه إلى النور.
في 23 ديسمبر من عام 1921 نُفي سعد زغلول للمرة الثانية خارج مصر إلى جزيرة سيشل، بعد أن نُفي للمرة أولى إلى جزيرة مالطة، و قبل نفيه للمرة الثانية كانت المفاوضات بين الوفد المصري بقيادة سعد زغلول و لجنة ملنر بلندن على أشدها؛ للوصول إلى حل يرضي الطرفين، و بعد رفض كل طرف لطلبات الطرف الآخر تم نفي سعد زغلول إلى جزيرة سيشل، و على إثره انفردت بريطانيا بالأمور، و عليه أصدرت تصريح 28 فبراير عام 1922، و أعلنوا فيه أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة، مع إلغاء الأحكام العرفية المُعلنة منذ الحرب العالمية الأولى عام 1914، مع وجود أربعة تحفظات، الأول هو حق بريطانيا في تأمين المواصلات، و الثاني هو الدفاع عن مصر ضد أي عدوان خارجي، و الثالث هو حماية بريطانيا للمصالح الأجنية و الأقليات، و الرابع هو حق التصرف في السودان، و بما أن مصر أصبحت دولة مستقلة فكان لابد من وضع دستور تسير عليه البلاد، و أصبح وضع الدستور هو مطلب أساسي للأمة المصرية.
شكّل عبدالخالق ثروت باشا، رئيس الوزراء آنذاك، اللجنة التي تضع الدستور، و كان ذلك في 23 مارس 1922 بأمر من الملك فؤاد الأول، و تولى حسين رشدي باشا رئاسة هذه اللجنة، و بلغ عدد الأعضاء 30 عضوًا، و ضمت اللجنة العديد من القيادات الوطنية و ممثلي الحركات السياسية، إلا أن الوفد بقيادة سعد زغلول رفض المشاركة في لجنة وضع الدستور، و اسماها لجنة الأشقياء؛ لأنه كان يرى أن يتم وضع الدستور من خلال لجنة تأسيسة منتخبة من قِبَل الشعب، و ليس من خلال لجنة معيّنة من الحاكم، كما رفض المشاركة أيضًا الحزب الوطني.
بدأت اللجنة في العمل من 11 أبريل 1922، و تم الانتهاء من صياغة النصوص في 26 أكتوبر 1922، إلا أن إصداره من جانب الملك تأخر لمدة ستة أشهر؛ لاعتراض السلطات الإنجليزية على بعض المواد الموجودة في الدستور، و اعتراض الملك على سلطاته، و كذلك تغير الوزارات، فمن عبدالخالق باشا ثروت، مرورًا بوزارتي توفيق نسيم باشا، و حسين رشدي باشا، وصولاً لوزارة يحيى باشا إبراهيم، و الذي صدر الدستور في عهده بعد إقرار الملك له في 19 أبريل عام 1923.
يعتبر الفقهاء الدستوريون أن دستور عام 1923 كان بمثابة باب الدخول للحريات في مصر، لما احتوى عليه من مواد تقر الحرية و المساواة، حيث نصّ الدستور على أن المصريون لدى القانون سواء. وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين. وإليهم وحدهم يعهد بالوظائف العامة مدنية كانت أو عسكرية ولا يولي الأجانب هذه الوظائف إلي في أحوال استثنائية يعينها القانون، كما نصّ على أن للملكية حرمة. فلا ينزع عن أحد ملكه إلا بسبب المنفعة العامة في الأحوال المبينة في القانون وبالكيفية المنصوص عليها فيه وبشرط تعويضه عنه تعويضا عادل، و نصّ على أن حرية الاعتقاد مطلقة.
بعد الانتهاء من وضع نصوص الدستور ظهرت العديد من المشكلات، أولها هي سلطات الملك، حيث امتعض من تقليل سلطاته، و عليه حدث تعديلات على مشروع الدستور، فأصبح للملك حق إقرار القوانين، و حقه في حل البرلمان، و هذا ما أدى إلى حل العديد من المجالس النيابية، و كان من أبرزها و أطرفها هو حل الملك فؤاد الأول لمجلس النواب في 23 مارس من عام 1925، حيث أكتسح الوفد الانتخابات، بالرغم من إعلان الوفد عدم المشاركة في الانتخابات، لكن تم الاكتساح من خلال تخلي أعضاء الوفد عن صفتهم و نزولهم كمستقلين، و في أول اجتماع تم انتخاب سعد زغلول رئيسًا للمجلس، و عليه أصدر الملك قرارًا بحل المجلس و ذلك بعد سبع ساعات من بدء الجلسة، ليصبح هذا المجلس هو ألاقصر في تاريخ مصر، كما تم تعديل المادة (23) و التي نصت على أن الأمة هي مصدر السلطات، و تم إضافة جملة ” لا يخل تطبيق هذا الدستور بالحقوق التي يباشرها الملك بنفسه بصفته سيد البلاد”، و بهذا أصبح الملك هو مصدر السلطات.
و نشبت مشكلة ثانية فيما يتعلق بالأقليات و حرية الاعتقاد، حيث احتوى الدستور على المادة الآتية :” حرية الاعتقاد مكفولة لجميع سكان مصر على أن يقوموا بحرية تامة علانية أو غير علانية بشعائر دين أو عقيدة مادام هذه الشعائر لا تتنافى مع النظام العام و الديان المعروفة”، و بهذه المادة تم قصر الأقليات على الأديان المعروفة، و هي المسيحية فقط، أما غير ذلك فليس لهم أي حرية في ممارسة العقيدة.
أما التعليم فقد نص الدستور على جعله إجباريًا على كل فرد، إلا أن الرجوع للعادات و التقاليد الموجودة في ذلك الوقت خصوصًا في الصعيد، أدى إلى تغيير هذه المادة و جعل التعليم ليس إجباريًا، و أتت مشكلة أخرى ألا و هي تمثيل الأقليات في البرلمان، حيث ارتفعت الأصوات بتخصيص نسبة للأقليات للتمثيل داخل البرلمان المصري، إلا أن أغلبية اللجنة رأت أن تخصيص نسبة للأقليات سيفتح باب الانقسام بين طرفي الأمة، و عليه لم يتم وضع مادة خاصة لنسبة الأقليات، و بهذا تم المساواة بين المسلمين و الأقباط في الترشح.
أما المشكلة الأكبر، و التي تسببت في جدل كبير على الساحة السياسية و الشعبية أيضًا، هي قضية السودان في الدستور المصري، فعند انتهاء لجنة الثلاثين من وضع الدستور كانت المادة (29) تنص على تسمية ملك مصر بملك مصر و السودان، أما المادة (145) فكان نصها “تجري أحكام هذا الدستور علي المملكة المصرية جميعها عدا السودان فمع أنه جزء منها، يقرر نظام الحكم فيه بقانون خاص”، و من هنا احتجت بريطانيا على المادتين، على إثر هذا الخلاف استقالت وزارة عبالخالق ثروت باشا في 30 نوفمبر 1922، و تولى الوزارة توفيق نسيم باشا.
و مارست السلطات الإنجليزية الضغوط على وزارة نسيم باشا و الملك، فأرسلت إنذارًا للملك في يوم الجمعة 2 فبراير 1923 بسحب تصريح 28 فبراير 1922 إذا لم يتم تعديل المواد الخاصة بالسودان، كما قامت بعروض بحرية للجيش البريطاني على السواحل المصرية، و في صباح السبت اجتمع الملك فؤاد الأول بالوزارة و عليه تم تعديل مادة تسمية الملك ليصبح اسمه ملك مصر فقط، أما موقف مصر من السودان فسوف يتم تحديده من خلال المفاوضات التي تتم بين الطرفين المصري و الإنجليزي، و قبل الإعلان عن هذه التعديلات كانت حكومة نسيم باشا تقدمت باستقالتها، معللة ذلك بسبب الضغوط التي مارستها السلطات البريطانية على العرش الملكي، و بعد فترة ليست بالقصيرة تولى حسين رشدي باشا رئاسة الوزراء.
و تسببت مواد السودان في الدستور في هياج جماهيري غير عادي، حيث كانت تستقبل الصحف العديد من التلغرافات من مختلف المحافظات و القرى المعبرة عن غضبهم حيال تدخل الإنجليز في الشأن المصري، و طالب الجماهير من خلال التلغرافات بعدم التفريط في السودان، كما هاجم الكتّاب في الصحف موقف الحكومة المصرية و تقاعسها عن منع التدخل الأجنبي، فتعجب “عباس العقاد” من امتعاض الإنجليز من مجرد تسمية ملك مصر بملك مصر و السودان، كما هاجم موقف وزارة عبدالخالق ثروت باشا لأنها سمحت بالتدخل الأجنبي، و طالبها بعدم الاستقالة لأنه شأن داخلي و ليس لإنجلترا حق التدخل، كما رأى أن تقرير موقف السودان من خلال المفاوضات لن يؤدي إلى شئ، و رأى أنه مجرد إهدار للوقت، و سار على نفس هذا النهج كلاً من عبدالقادر حمزة، مؤسس جريدة البلاغ آنذاك، و سلامة موسى، و غيرهم.
و استمر تأجيل صدور دستور 1923 لمدة ستة أشهر كاملة بسبب ما ذكرنا من خلافات، و بعد عمليات الشد و الجذب التي حدثت بين الطرفين المصري و الإنجليزي، إلى أن صدر فجأة في يوم 19 من أبريل من عام 1923، و ذلك في عهد يحيى إبراهيم باشا رئيس الوزراء في ذلك الوقت، و على إثر هذا الدستور تم إنعقاد أول برلمان مصري في مارس 1924، و كان الوفد ممثلاً بأكثر من 90% في هذا المجلس.
و بعد انتخاب العديد من مجالس النواب و إلغاءها من قبل الملك، و تزايد الصراع بين الوفد و الملك، تم إيقاف العمل بدستور 1923 و العمل بدستور 1930 و الذي أعطى سلطات واسعة للملك، و لم يلبث هذا الدستور و أن توقف في 1936 و إعادة العمل بدستور 1923، إلى أن جاءت ثورة 1952 و أوقفت العمل به بشكل نهائي.

عن محمود عبدالوارث

شاهد أيضاً

ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

تعويذة منمقة صقلوها فألصقوها

مهيئون نحن دوماً على وضعية التمني، نحاكي أحلاماً كثر ولكنّ أقل القليل منها يصيّر إلى …

ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

عن سليمان الحلبي

يالها من صدفة أن يُولد في كنف التاجر الحلبيّ محمد أمين، فالظروف تخبره في العام …

شاركنا تعليقك =)

%d مدونون معجبون بهذه: