ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ
ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

عن تساؤلات مُتعبة

كانتِ السماء مُلبّدة بالغيوم، و مدهونةً بأشعة الشمسِ النعِسة، و كانتْ هَبّاتُ الريح تحملُ غباراً و قِطَعاً من خَيبتها. جعلَ خلوّ الشارعِ الأشجارَ تبدو كأُناسٍ إذ هي تتابعُ ما يجري. كانت شمسُ الصباح تُنيرُ أجزاءً من الشارع بخجلٍ، و تتركُ الباقي ليحظى ببضع دقائق إضافيةٍ من النوم.
و لم تزل رائحةُ نسيم الليل تخيّم على المدينة بأكملها.
كانتْ تسيرُ على غير هدىً و من دون نور، تقصدُ الراحةَ و لا تعلمُ أين تجدُها، تقصدُ اللجوء، لا تدري من ماذا و لا تدري لمَن، فقط تُريدُ أن تبتعدَ، كانتْ تسيرُ دون بوصِلة، دون معرفةٍ باتّجاه أو هدف أو وجهة.
خُطُواتها حملتْ أطناناً من همّ. كلُّ واحدةٍ تزلزلُ الأرضَ إذ تهبطُ إليها. اعتقدتْ أنها بذلك تنفضُ همومَها عنها و تنثرها في الهواء.
و كانت تُضطرُّ أن تنتزع قدمها من فمِ الأرضِ انتزاعاً لتخطوَ الخطوة التالية.
انحناءةُ ظهرهِا- التي توحي أنها في الستين من عمُرها- تبدو كأنها احتاجتْ نحتاً استمرّ لياليَ طوالاً، تُقضى ساعاتها بوَحدةٍ، أو برفقةِ صديقٍ صعب المراس يُسمّى شوقاً.
ربما كانت تلكَ الانحناءةُ وصفَتها لمواجهةِ الأيام المُتعِبة.
لماذا ترتسمُ الآن في مخيّلتها صورُ كل البشر الذين تجاهلوها؟ تذكُر وحدتها التي ما فتأت تُدمي قلبها و يؤلمها أن تُدركَ أنها إن لم تستطع أن تُساعدَ نفسَها فلن تجد من أحد أي مساعدة.
تُحاولُ أن تتذكّر آخرَ يومٍ شعرتْ فيه أنها طفلة، آخر يومٍ لم يحملْ ساعاتٍ من التفكير العقيم، تحاولُ أن تتذكّر آخرَ ابتسامةٍ صادقةٍ طُبعتْ على وجهها. آخر ابتسامةٍ لم ترسمها نفاقاً أو هرباً من دمعة.
تُسائلُ نفسها، ما الذي فعلته بنا الأيامُ؟ أين ذهبتْ بالنسخة القديمة منّا؟ ماذا حلّ بتلك الفتاة التي كانتْ تضحكُ لأدقّ الأشياء و أبسطها؟ التي كانت تقطف السعادةَ من جانبِ الطريق، التي كانتْ لا تنتظرُ من أحدٍ أن يُسعدَها، و لا تنتظر أن تكونَ سعيدةً لتبتسم، أين هي؟ أين هي تلك التي اعتادتْ أن تضمّد الجِراحَ أينما وُجدتْ و تُنيرَ الزنازين للعقولِ السجينة؟حوارها مع نفسِها كان ينتهي بمرارةٍ في كلّ مرة. كانتْ كلّما اعتقدت أنها اقتربتْ من حلّ لمشاكلها قاطعها صوتٌ ما، يدمّر تواصل أفكارها، و يرمي بفتاتها في الفضاء، و يجرّها بعيداً عن كلّ شعاعِ ضوء ينفذ من ثغرٍ في حائطِ الحزن المحيط بها. في البدء حاولتْ أن تتجاهل ذلك الصوت، ثم أصبحتْ تُجاهدُ نفسها لتثبتَ على الطريق الصحيح، لكن عبثاً كانتْ تُحاول، كانَ دائماً يقضي على أفكارها و يُعيد عقلها بيداءَ قاحلةً لا تحوي زرعاً و لا بشراً. ثمّ حاولتْ أن تُغلقَ أذنيها بيديها، فاخترقَ عينيها و مرّ خلال جمجمتها و منعَها من الوصول مراتٍ و مراتٍ.
فقدت صبرها، تململتْ، غضبتْ.
من أنتَ؟ ما أنتَ؟ و ما الذي تريده منّي؟ بمَ يعنيكَ ضياعي و كيف يُفيدك فسادُ حياتي؟ لم تُصرّ أن تُبعدني عن المنفذ؟ لقد أنهكتْني الأيام، أرجوك! قدْ طالَ بقائي في هذا الجحيم، كيفَ استطعتَ أن تخدعني و تغريني بدخوله؟ لم أكن في يوم من الأيامِ غبيةً أو غافلة، كيف؟! طيّب، لماذا اخترتني أنا؟ أعِدني إلى تلك الفتاة التي اشتاقها و تشتاقني، أعِدني فقد طالِت الغيبةُ و مزقَنا الألمُ!

في أحد الأيامِ المليئة بشتى أنواع العذاب، قرّرتْ أن تقومَ بمحاولةٍ أخيرة لتحطّم ذلك الجدار.
محاولةٍ، تنجو بسببها أو تموتْ. تموتُ أكثر قليلاً من موتها الحاليّ.
أطبقتْ فمها على كل الحروف، أغلقت أذنيها عن كل الكلمات، أشاحتْ برأسها عن جميع الناس، و أغمضت عينيها عن كل شيء.
قرّرت أن تعيش يومين هكذا، بلا صوت، بلا ضوء، بلا ناس، بلا شيء، تذكُر كم كانت مرتاحةً عندما عاشت هناك تسعة أشهرٍ كاملة بلا أحد. و ستقوم بالقضاء- بنفسها- على كل فكرة تفكّر بالاقتراب من عقلها. تُريدُ أن تُعيدَ لعقلها عذريّته، طفولتَه المسروقة، تُريدُ أن تستعيد نفسها الأولى، تلك التي ُولدتْ بها. تُريد أن تعودَ إلى ما كانت عليه تماماً عندما خرجتْ من المصنع. و ستتخلص حتماً من الخبَث الذي علِقَ بها من هذه الدنيا.

عندما وجدتْ نفسها تقفُ حرةً خارج أسوار سجنها، أطلقتْ صرخةَ وعدٍ أنها لن تقترب أبداً من ذلك الجحيم، مهما بدا جميلاً و مزخرفاً  من الخارج. أبداً.
ثم أقسمتْ ألا تستمعَ ثانيةً لذلك الصوتِ مهما قويت حجته و طغى وجودُه حولها، الصوتِ الذي كاد يُنهي حياتها، الذي أراد أن يُجبرها على قضاء ما تبقّى لها من أيامٍ بينَ جدران سجنٍ مُظلمٍ بناهُ الناسُ لكلّ من يفكّر بالتمرّد عليهم، لكلّ مختلفٍ عنهم، و خاصةً أولئك الذين لا يخشَوْن أن يكونوا مختلفين و يفخرون باختلافهم و غرابتهم و يرعَوْنهما منذ السرير الأول إلى السرير الأخير..

عن Abdellatif

شاهد أيضاً

ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

عراك الظلام

ها انا جالسة ويصبني الملل، واضعة بجواري مصباح لا يفارقني ويحيطنا ظلام دامس. لم نخاف …

ريشة | مُجتمع الأدب العربيّ

سأسكت

ثمّة هناك ثلة لا بأس فيها وكل البؤس منها في مجتمعنا ، يحاكون الغازات النبيلة …

شاركنا تعليقك =)

%d مدونون معجبون بهذه: